تسلُّل
كل يوم، أترك مقبض الباب وأغلق باب الشقة ورائي.
أمشي، ويتقاطع مساري بمسارات كثير من البشر، في البهو، في الشارع، بين السيارات، عند بوابة المدينة الطبية، ممرضون، زوار، مرضى.
الساعة على الحائط تشير إلى الرابعة مساءً، بداية وقت الزيارة، تمتلئ الشقة برائحة القهوة وهي تغلي على النار. نعد الشاي معها على عجل، ونمضي، بداية من بهو الشقة الصغير.
أرى رجلاً تسكو وجهه التجاعيد، وغطى شعره اللون الابيض، مستلقيًا على الكنبة ويحدق في التلفاز.
نخرج، الشارع مكتظ بالمحلات، والسيارات، والناس. زحمة الرياض، وحر الرياض، قرص الشمس الملتهب في وسط السماء، ورائحة تلوّث المدن… رائحة خانقة.
نقطع الطريق دخولًا إلى المدينة الطبية.
أرى العديد من البلكونات أثناء المشي، تشدّني البلكونات دائمًا.
أحتاجها كما تحتاج النباتات إلى الماء، أحتاجها لأتنفّس، يريحني منظرها.
أدرك أن صاحب البلكونة يمتلك مهربًا من الاختناق داخل الغرفة، أو من مشاعره كلما داهمته، مثلما أمتلك أنا مهربًا… فأرتاح.
نمر على حديقة، دوار، وشارع طويل، ثم ندخل المبنى.
نمشي حتى نصل إلى المصعد، ثم من المصعد إلى الجناح الذي يقطن فيه أخي، على اليمين.
تصلنا إضاءة الشمس من النافذة متقطعة، تودّ الشمس العبور، الظهور، مهما حاولنا حجبها، تتسلل.
وإن لم يكن في استطاعتها الوصول، تنوب عنها حرارتها.
الشمس قوية، جريئة.
لو أغلقت الباب في وجهها، سيتسلل نورها من أسفل الباب.
أفكر بالشمس.
يحلّ الليل، وتنتهي الزيارة.
أخرج من باب الجناح، أقرر أن أنزل بالدرج هذه المرة، لأنني لا أريد انتظار المصعد.
أنزل مسرعة، خطواتي متداخلة على الدرجات.
أخرج مرورًا بنفس الطريق: الحديقة، الشارع، البلكونات.
القمر هذه المرة بدل الشمس.
الشارع مزدحم.
عشرات الناس يدخلون المدينة الطبية، وعشرات يخرجون.
وصولًا إلى البهو الصغير للشقة.
الكنبة في البهو يجلس عليها أشخاص مختلفون كل مرة.
باب صغير على جانب السيب أستطيع رؤية مطبخ الشقة منه، إبريق شاي كبير على الموقد، وأشياء أخرى.
أمشي حتى أصل لباب الغرفة.
تمضي الأيام، كلها انشغال، وأحمد الله عليها، لأنني أعرف أنني أحتاج للوقت أن يمضي، وأن لا أطيل التفكير.
لكنني لا زلت أسهر الليل كله، أشرب الشاي، وأكتب مثلما أفعل الآن.
مستلقية على كنبة زرقاء خشنة، رائحة أوراق الشاي، والإبريق المعدني المتروك على الطاولة يساري.
تتراقص ألوان مختلفة ومتداخلة من التلفاز خلفي على الجدار الذي أمامي.
ستار كبير يقابلني، وفي داخلي ستار كبير، طويل، يخفي خلفه الكثير.
وضعتُ حدًا فاصلًا، واضحًا، قويًا، وجريئًا كقوة الشمس في حضورها،
فلماذا يتسلل القمر في وسط النهار، في الظهر، والشمس في أقوى حالاتها؟
لماذا يظهر هكذا، نصف ظهور، باهتًا، بعيدًا، يكاد لا يُرى؟
ترى، هل يعلم القمر أنه ينير بفضل شعاع الشمس؟
وهل يشعر بالاكتفاء وهو يعكس وهجها، من بعيد؟
أما أن يظهر القمر كاملًا في الليل، والسماء سماؤه، واضحًا،
جريئًا،
قويًا، كقوتها،
أو لا يظهر أبدًا.